الخميس، 2 أبريل 2015

دولة جنوب أفريقيا .. درس في التعايش والمواطنة

أين تقع : وسط مدينة كيب تاون، الميناء الشهير على الطرف الغربي لجنوب أفريقيا (رأس الرجاء الصالح) .. بينما يمر الأتوبيس السياحي على محكمة كيب تاون العليا، المبنى الأثري العريق الكبير الذي يمثل الطراز المعماري “الكولونيالي” المميز للمستعمرات البريطانية السابقة، غير أن الطراز المعماري للمبنى ليس هو ما يستحق تنويه المرشد السياحي هنا، وإنما هذان المقعدان الخشبيان على جانبي المدخل هما ما يستحق التوقف والتأمل، يبقى هذان المقعدان شاهدين على الحقبة الأشد ظلاما في تاريخ هذه البلاد، مكتوب على أحدهما “whites only” وعلى الآخر “non-whites only”، أحد المقعدين كان مخصصا في زمن الفصل العنصري للبيض فقط والآخر لغير البيض، ففي هذه البلاد ظل البيض وغير البيض لعقود طويلة يعيشان في وطن واحد ولكن لا يلتقيان أبدا، لا في المواصلات العامة ولا في المصالح الحكومية ولا في المدارس أو الجامعات ولا حتى في المطاعم.

في جمهورية جنوب أفريقيا التي حرمت فيها الأغلبية الملونة (هنود وأفارقة) من التصويت في الانتخابات حتى عام 1994، انتهى الأمر بانتخاب ثلاثة رؤساء متتاليين من ذوي البشرة السمراء بعد سقوط سياسة الفصل العنصري (apartheid) بنضال حزب المؤتمر الوطني ونيلسون مانديلا وبمساعدة دول العالم التي عزلت النظام العنصري وقاطعته لسنوات طويلة.
يعيش الآن في جمهورية جنوب أفريقيا 49 مليون نسمة منهم 10% تمثل الأقلية البيضاء التي تحكمت تماما في السابق في اقتصاد البلاد وسياستها، وقد أصبح الفصل العنصري جزءا من الماضي تتذكره الأجيال التي عاشت ما قبل عام 1990 ولا يتبقى منه إلا ذكريات مثل المقعدين الخشبيين على جانبي مدخل محكمة كيب تاون، فيما عدا ذلك فالمواطنون جميعا سواء ويتمتع الجميع بكامل الحقوق.
في جنوب أفريقيا مثال حي للتعايش بين فئات من البشر بينها اختلافات جذرية في العرق واللون والثقافة واللغة والأديان وبينها إرث عميق من القهر والاضطهاد، ولكن إعلاء مصلحة الوطن هو ما جعل هذه الفئات جميعا تتعايش جنبا إلى جنب في دولة دستورية حديثة.
يعتز مواطنو جنوب أفريقيا بلغة “الأفريكانز” (Afrikaans) ويعتبرونها رمزا لوطنهم وقوميتهم، وهي لغة فريدة تجمع بين الأصل الهولندي (لغة المستعمرين الأوربيين) مع خليط من لغات القبائل الأفريقية (لغة السكان الأصليين) مع الماليزية والإندونيسية (لغة المهاجرين الآسيويين) وهو خليط لا يمكن أن تجده إلا في دولة متعددة الثقافات مثل جنوب أفريقيا.
قضى نيلسون مانديلا 27 عاما في السجن وخرج منه عام 1990 زعيما وطنيا ثم أول رئيس أسود للبلاد بانتخابات شاركت فيها جميع فئات الشعب دون تفرقة ولأول مرة، نجح الضغط الدولي في عزل النظام العنصري وتمكنت الأغلبية السوداء من تقرير مصيرها والحصول على حقوقها الكاملة، وهنا جاءت “المصالحة الوطنية” كأكبر تحد للرئيس الزعيم، شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة من شخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة وأجريت جلسات اجتماع لضحايا الاضطهاد والمتهمين ومنحت اللجنة حق العفو عن المتهمين ما لم يرتكبوا جنايات ودون إهدار لحقوق الضحايا، وكانت هذه اللجنة هي الخطوة الأهم في طريق انتقال البلاد إلى أن تصبح دولة ديمقراطية دستورية كاملة.
بالرغم من الفصل غير الرسمي بين البيض والسود حاليا، حيث يندر وجود السود في الأحياء الراقية التي يحظى سكانها من البيض بمستوى معيشة مرتفع نتيجة حصولهم على تعليم جيد بينما لا يعيش أبيض واحد في العشوائيات الفقيرة، كما أن الأقلية البيضاء ما زالت تتحدث الإنجليزية وما زال السود يتحدثون لغات قبلية مختلفة، إلا أن التعايش في إطار القانون والدستور يظل خطا أحمر لا يمكن التنازل عنه، ويتوحد المواطنون جميعا خلف رموزهم الوطنية مثل نيلسون مانديلا ومثل العلم الجديد (منذ 1994) والفريق الوطني للرجبي وهي الرياضة الشعبية الأولى هناك، لا مجال للحديث عن أبيض وأسود عندما يتعلق الأمر برمز وطني يمثل البلاد، كما أن احترام التعدد الثقافي ملفت للنظر، فلا تلاحظ انتقاد مظهر شخص ما أو ملبسه مهما كان غريبا، ويكتفي الناس هناك بالتعليق على أي مظهر غريب بأنه “ربما هذه هي ثقافته”، كذلك ذكر لي أحد المواطنين البيض مثلا أنه يفتخر بأنه يعرف اللغات الست التي يتحدثها السود بمختلف قبائلهم.
كما يتمتع المواطنون والمقيمون في جنوب أفريقيا بحرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية ويتقبل المجتمع مختلف الديانات نتيجة التعددية الثقافية للدولة، نسبة المسلمين مثلا لا تتعدى 1.5% من عدد السكان لكن الاحترام لشعائر الصيام ملفت للنظر (عرضت موظفة الاستقبال في الفندق دون طلب منا تقديم وجبة الإفطار مبكرا عن موعدها لتكون بمثابة سحور عندما استنتجت من أسمائنا أننا مسلمون)، وعبارات التهنئة بالعيد (عيد مبارك) شائعة في مختلف الأوساط وباللغة العربية.
فهل يمكن أن تستفيد مصر من الدرس الجنوب أفريقي في التعايش السلمي وتقبل الآخر من أجل مصلحة الوطن؟ إن معطيات الوضع المصري أفضل كثيرا من مثيلتها في جنوب أفريقيا، فالمصريون شعب واحد يتحدثون لغة واحدة ويعتنق غالبية المواطنين العظمى دينين رئيسيين فقط، وليس في مصر تاريخ دموي بين فصائل المواطنين، ولم نصل بالتأكيد لدرجة تخصيص مقاعد لطائفة من المواطنين ومقاعد أخرى لبقية الطوائف، فلماذا لا نتصالح ونسمو فوق خلافات الماضي التي لا تقارن أصلا بما شهدته شعوب أخرى من مذابح وتطهير عرقي وفصل عنصري؟ أظن أن المصالحة الوطنية لا تحتاج أكثر من إرادة شعبية تعلي مصالح الوطن لكي نصل إلى دولة دستورية عادلة تحفظ حقوق جميع المواطنين وتساوي بينهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق